ازدواجية دور المصلحة في الفقه السياسي الشيعي
الاجتهاد
والتجديد ـ العـددان 28 ـ 29، السـنتان 7 ـ 8، خريف وشتاء 2014م ـ 1435هـ
تمهيد
تستطيع المصلحة في الفقه السياسي
الشيعي؛ باعتبارها أساساً في تأسيس أحكام الدولة، أن تفي بدورٍ مزدوج: فمن جهة؛
ومن أجل تحقيق أصل المصلحة وأحكام الدولة، أن تكون وسيلة للعبور من الأحكام الأوّلية
والثانوية، ومن جهة أخرى؛ ونظراً للغموض والإبهام الذي يكتنف مسألة تشخيص المصلحة،
وتعيين ملاكاتها، يمكنها أن تكون عاملاً في تقييد المجتمع المدني بشكلٍ كبير.
وللتعرف أكثر على المدَّعى المتقدِّم
سنفصِّل الحديث في مختلف أنواع المصلحة (المصلحة في الفكر الكلاسيكي، وفي الفكر
الغربي الحديث؛ المصلحة في الفكر الإسلامي، أعمّ من: المصلحة الموجودة في سلسلة
الأحكام، المصلحة باعتبارها مصدر فهم الشريعة، المصلحة الإجرائية، ومصلحة تشخيص
النظام)، واختلاف دور المصلحة في الفلسفة السياسيّة الغربية عنه في الفكر السياسي
الإسلامي، حيث سنعمل على البحث في مكانة المصلحة في الفلسفة السياسية والفقه
السياسي، لننتقل بعدها إلى استظهار المصلحة في الفقه السياسي الشيعي والسنّي. وغرضنا
الأول من هذه المقاربة بيان اختلاف مكانة المصلحة في الفلسفة السياسية وفي الفقه
السياسي، حتى ننتقل إلى الإجابة عن السؤال: هل هناك دورٌ مزدوج للمصلحة في الفقه
السياسي الشيعي خاصّة أم أنّ هذا الدور المزدوج يوجد كذلك في الفقه السياسي لأهل
السنّة؟
اختلاف مكانة المصلحة في
الفلسفة السياسية الغربية والفكر السياسي الإسلامي
تتقارب المصلحة في الفلسفة السياسية
الغربية مفهومياً مع مجموعة من المفاهيم الأخرى، نظير: المنفعة. وقد استعمل Expediency Good مفهوم المصلحة لأول مرة على أنها من استعمالات الحرس (المحاربين)، وكتب
أفلاطون قائلاً: «إن الحراس أو المحاربين يقضون معظم وقتهم في الفلسفة. لكنّ
كلّ واحد منهم بدوره سيتحمل إلى جانب ذلك معاناة الأعمال السياسية. ولإيمانه
بالمصلحة العامة سيقدم على تولّي مسؤوليات المدينة (الدولة)»([1]).
ليضيف: إن ملاك تحديد وظيفة المحارب
تكمن في مدى علاقته بالمصلحة العامة:
قلت: إنه يوجد بين الحرّاس أفضل
الأفراد القادرين على إدارة وتسيير شؤون الدولة، وهم بالضرورة أكثر الناس قدرة على
حفظ الدولة. قال: هو كذلك. قلت: هؤلاء يجب أن يكونوا من الأذكياء والفاعلين، ولهم
كامل العلاقة بمصالح الدولة...، إذن فعلينا أن نختار من بين الحرّاس مَنْ ثبت
لدينا أن لديهم علاقة قوية وكاملة بمصالح الدولة، وثبت لنا أن خدمة مصالح الدولة
أصبحت لديهم ملكة، يقضون جلّ عمرهم في خدمتها، ولا يصدر منهم بأي حال من الأحوال،
وتحت أي طائل كان، ما من شأنه أن يخالف المصلحة العامة، وهذا يستلزم منّا متابعتهم
في مختلف مراحل عمرهم؛ ليحصل لنا اليقين بأن علاقتهم بالمصلحة العامة للمدينة أصل
متجذِّر في نفوسهم، وأنهم أوفياء كلّ الوفاء له، وأنّه لا يمكن تحت أيّ تهديد، أو
في مقابل أيّ عمل، مهما كانت قيمته ونوعه، أن يتركوا هذه المصلحة أو حتّى مجرد
نسيانها؟([2]).
يرى أفلاطون أن تأمين المصلحة
الاجتماعية هي أهمّ وظائف الحراس (المحاربين). وأرسطو ـ مثل أفلاطون ـ كان يعطي
لمضمون ومحتوى النظام السياسي الأولوية، ويراه أهمّ من الشكل. ووفقا لنظريته
فالمصلحة هي الركيزة العظمى التي يتقوّم بها البنيان الاجتماعي للمجتمع؛ باعتبارها
العنصر المشترك بين جميع أفراده ومكوّناته. وعلى هذا الأساس فالحياة الجيدة،
والمبتنية على النفع والمصلحة العامة، هي الهدف الأصلي من المجتمع([3]). وهكذا فأرسطو
يرى أن المصلحة العامة والنفع المشترك مفهوم أصيل في المجتمع.
حازت المصلحة في الفلسفة السياسية
اليونانية القديمة على مكانة رفيعة؛ لكونها كانت مرتبطة بمفهوم الدولة (المدينة)
من جهة؛ ومن جهة أخرى لأنّها عُرفت فضيلة أخلاقية في المدينة. وهكذا جاءت الفلسفة
السياسية في طول الفلسفة الأخلاقية بلحاظ المعنى.
وقد بحثت الفلسفة اليونانية لأوّل
مرة المصلحة العامة بعنوانها ملاك (معيار) السياسة، ومعياراً في تحليل النظم
السياسية.
ورغم أنّ الفلسفة السياسية للفارابي
يمكن فهمها إلى حدٍّ معين على أنّها استمرار موضوعي للفلسفة اليونانية، إلاّ أنّ
مفهوم المصلحة، وعلى طول الزمان، ظلّ شاحباً في الفكر السياسي الإسلامي، ولم يظهر
أيّ رابط موضوعي بين فلسفة الأخلاق والفضيلة الأخلاقية وبين الفلسفة السياسية.
وعرفت المصلحة في الفكر السياسي الغربي
ابتداءً في المجال العمومي؛ وذلك لأنّ المسيحية لم تكن لها شريعة يمكنها أن تطرح
المصلحة في هذا المجال. على عكس العالم الإسلامي، حيث كانت المصلحة في الشريعة الإسلامية
مادة دسمة، مما جعلها على خلاف الحال الذي كانت عليه في الفلسفة السياسية
اليونانية والغربية مهملة، وبالكاد تُذكَر. ولهذا فالمجتمع في العالم الإسلامي لم
يؤسّس على مفاهيم الخير والمصلحة، ولذلك ظلّ السؤال الأساس في الفكر السياسي
القديم يطرح حول «مَنْ هو المؤهَّل للحكومة؟». وحتى في الفكر السياسي للفارابي وجد هذا البحث حول ضرورة
ترك جزئيات ومصاديق المسألة إلى الفقهاء والفقه؛ لعلاقته بعملية استنباط الأحكام
الشرعية.
وتحوّل السؤال في الفلسفة السياسية
الجديدة من «مَنْ
الذي يجب أن يحكم؟» إلى التساؤل حول «كيف يجب أن يحكم؟». وأصبحت معه الفلسفة السياسية تخصّصاً علميّاً مستقلاًّ
بذاته في الغرب. لكن ما يجب معرفته في المقابل أن الفلسفة السياسية الإسلامية ظلَّت
ضعيفة تراوح مكانها، واستعاض الفقه السياسي مكانها، ولهذا لم تتَحْ الفرصة للمصلحة
كمفهوم سياسي أن تلعب دورها المنوط بها في هذا البعد داخل المجتمع الإسلامي.
لكنْ لا يمكن معرفة مكانة المصلحة
في الفلسفة السياسية الغربية بشكلٍ مباشر إلاّ بعد التمييز بين المرحلة القديمة،
التي كان محورها يدور حول «مَنْ يحكم»، والمرحلة الجديدة، التي تغيَّر المحور فيها إلى «كيفية الحكم». وقد عرفت
المصلحة في الفلسفة الكلاسيكية على أنها مصلحة المدينة، أو ما كان يطلق عليه عند
اليونان «پوليس». والمصلحة في عالم الدنيا، حيث كانت
تقدَّم رتبة عن المصلحة الفردية أو الشخصية، لكنّها في العصور الوسطى أصبحت تعني
السعادة الأخروية لترتبط بالعالم الآخر.
إن السعادة
محور الفكر السياسي اليوناني. وتعريف السياسة والديموقراطية في مجال الدولة ـ
المدينة هي التي تميِّز بين الفكر الكلاسيكي والفكر الحديث. والحدّ الأدنى من
الشروط التي يلزم توفُّرها في المجتمع الحديث؛ لتأمين المصلحة، عبارة عن: الحرية،
والمساواة في الحقوق، والفصل بين العامّ والخاصّ، وحكم الشعب للشعب (الديموقراطية)،
وتحكيم رأي الأكثرية الثقافية السياسية المشتركة. وكان ماكيافيلي أوّل المفكِّرين
السياسيين في العصر الحديث الذين صرَّحوا بأنه لأجل التوحيد بين جمهوريات إيطاليا لا
بُدَّ من كسر الرابط بين السياسة والأخلاق، وأبدع مفهوم ما يسمّى في السياسة
الغربية «مصلحة الدولة».
أما الفضيلة
في نظر (ويرتو) فهي تعرف على أساس مصلحة وعظمة الجمهورية، وليس العكس.
وحسب رؤية
ماكيافيلي فإنّ أساس عظمة الدولة ليس رفاهية الفرد، وإنما هو الخير العام. والخير
العام إنما يجد أهميته في دولة الجمهورية؛ لأن هذا النوع من الدول يعمل كلّ عمل
يكون فيه الخير لعامة الناس، حتى وإن جلب الخسارة والضرر لفرد هنا أو فرد هناك؛
لأن تعداد الذين يجلب لهم الخير والنفع كبيرٌ بالمقارنة مع هؤلاء الذين يسبِّب لهم
الخسارة والمضرّة. لكن الأمر على العكس في دولة الملوك والأمراء، فعادة ما تجلب
المصلحة الخير للملك وحده، وتكون سبباً للخسارة والضرر لعموم الشعب، وما يكون فيه
الخير لعامة الشعب يكون مضرّاً بمصالح الملك، فيقع التضادّ بين المصلحتين. وهذه
الدولة إنما ينظر فيها إلى مصلحة ونفع الملك على حساب الشعب. وفي المجتمعات التي
تستولي فيها الحكومات الاستبدادية على مقدرات الشعوب، ويستبدل مكان الحريات بالظلم
والقهر، يكون أقل ما تصاب به من الشرور أن هذا المجتمع لا يتقدَّم، ولا يخطو خطوة
نحو الترقّي والنموّ، فلا ثرواته تزداد، ولا قدراته تنمو، وتؤول تلك المجتمعات في
الغالب إلى الزوال والسقوط([4]).
يرى هوبز، وهو
أحد المفكِّرين الذين يشكِّل نظرهم أهمّية خاصّة في هذا البحث، أنّ المصالح الخاصة
للأفراد لا تنتهي إلى تأمين المصلحة العامة. والفرق الأساس بين نظرية ماكيافيلي
وهوبز أنّ الأول يركز على مصلحة الجمهورية، بينما نجد هوبز يركز على الحقوق
الطبيعية.
ونظرية بريان
باري أنّ مفهوم المصلحة العامة إنّما يتشكل وينمو داخل المجتمع، حيث تعمل الدولة
على تجميع الثروات وحفظ الحريات المدنية والاجتماعية، وتنظيمها، وهي الأمور التي
لا تمنحها الفضيلة أو الانسجام الديني([5]).
وقد تحدَّث لنو اشتراوش، كفيسلسوف
وناقد حادثوي، حول ازدواجية الفلسفة السياسية، قائلاً: البداية كانت سنة الحقّ
العام الشامل أو الطبيعي، التي جاءت مع هوبز، وبعدها المدارس الأخرى التي تقول
بمصلحة الدولة، والتي عرفت مع ماكيافيلي([6])، ساعياً إلى
رفع نقص كلٍّ من التوجُّهَيْن، ليخطو في النتيجة خطوة نحو العودة إلى الفلسفة
السياسية الكلاسيكية.
في الوقت الذي تطلع علينا ثلاث اتّجاهات
في الغرب (مصلحة الدولة، الحقوق الطبيعية، والاتّجاه القائل بالعودة إلى الفلسفة
الكلاسيكية) نجد المصلحة في الفلسفة السياسية ـ والكلام السياسي ـ الإسلامية قد
قطعت شوطاً في الرجوع القهقرى، ورويداً رويداً نحو الأفول. فرغم كون المتكلِّمين
المعتزلة والشيعة، وفقهاء الأصول، والذين ينطلقون من أن الأحكام في الشريعة تابعة
للمصالح ودرء المفاسد، قد سعَوْا إلى إيجاد الأساس الذي يجعل الانسجام بين الشريعة
ومتحوّلات الزمان والمكان كمقدّمات للاستجابة لاحتياجات المسلمين اليومية تحت
عنوان ـ المصالح المرسلة ـ، فقد ظلَّت هناك موانع وحواجز حالت بين تقييم مستقلّ
للمصلحة العامة كمكوّن رئيس في بناء المجتمع([7]). ومع القبول
بأن الفلسفة السياسية الكلاسيكية الإسلامية (بتمثيل الفارابي) تطابقت نسبياً
ومفهوم المصلحة (مستوحاة من أفلاطون وأرسطو)، فإنّ هذا لم يعمِّرْ طويلاً، حيث
طواه النسيان مع اضمحلال الفكر السياسي، لتأخذ الأخلاق السياسية نزعة فردية، بعيداً
عن الخوض في المصلحة والمنفعة العامّة. لكنّ هناك قسماً آخر من الفكر السياسي الإسلامي
حاضراً في الميدان، والمتمثِّل في الفقه السياسي، وسنتتبَّع فيه بشكلٍ منفصل مكانة
المصلحة.
المصلحة في الفقه السياسي
الشيعي والسني
يقع مفهوم المصلحة في الفلسفة
السياسية والفقه السياسي بين معنيين متقابلين في كلّ التقسيمات، حيث يمكن تقسيم
المصلحة إلى: مصلحة فردية ونوعية؛ مصلحة دنيوية وأخروية؛ مصلحة معتبرة وغير
معتبرة، مصلحة ضرورية وغير ضرورية([8]). كما يبحث ضمن
مباحث الفلسفة السياسية والفقه السياسي عن المصلحة النوعية، ومصالح المجتمع.
هناك معانٍ مختلفة للمصلحة في الفكر
الإسلامي، ونرى من الضروري أخذها بعين الاعتبار: المصلحة الموجودة في علل الأحكام،
المصلحة باعتبارها مصدراً في فهم الشريعة، المصلحة الإجرائية، ومصلحة النظام (في
الفكر السياسي للإمام الخميني).
وفي فقه أهل السنّة المصلحة
(بالمعنى الثاني) تنقسم بلحاظ الأهمية إلى ثلاث مجموعات: الحاجيات (وهي مرتبة من
المصلحة، حيث يمكن البقاء بدون العناصر الخمسة السابقة، ولكن بشكلٍ يكون فيه الضيق
والعُسْر الكبير)؛ والتحسينيات (وهي مجموعة من الموارد التي تتناسب ومكارم الاخلاق
ومحاسن الأدب والعادات)([9]). ونجد الفقه
السني؛ وبسبب عدم ارتباطه بروايات أئمة أهل البيت^
من جهةٍ، ولكثافة ارتباطه بالنظم السياسية وبالأنظمة الحاكمة التي حكمت العالم الإسلامي
على مرّ التاريخ، سعى؛ ولأجل حلّ مشكلات تلك الحكومات، كي يستعين بالقياس
وبالمصالح المرسلة والاستحسان؛ ليملأ منطقة الفراغ على الصعيد التشريعي والفقهي.
فنجد الغزالي على سبيل المثال يعقد
تعريف المصلحة بأهداف الشارع في حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وكل
ما كان في حفظ تلك العناصر الخمسة فإنّه يدخل تحت نطاق المصلحة. وفي اعتقاده
المصلحة هي نفسها مقاصد الشريعة، لا فرق بينهما([10]).
أمّا الشاطبي، وبعد أن قسَّم المصلحة إلى الضروريات (الدين، والنفس،
والعقل، والنسل، والمال)؛ والحاجيات؛ والتحسينيات، فقد جعل أربعة طرق وجهات لمعرفة
مقاصد الشريعة: صرف الأمر والنهي الابتدائي والصريح؛ النظر في علل الأوامر
والنواهي؛ المقاصد الأصلية والعرضية؛ وأخيراً سكوت الشارع([11]).
وباستناده إلى قاعدة: «لو عدم العقل
لارتفع التديُّن»([12]) جعل التديُّن مستلزماً للعقل، كما أن وجود العقل ميسّر
للتديُّن ومسهِّل لحصوله. وحفظ الدين، الذي عدَّه ضمن الضروريات في الشريعة، وبحفظ
العقل؛ باعتباره مقصداً آخر ضروريّاً للشريعة، يكشف عن الارتباط والعلقة الوثيقة
بينهما، وهو ما ينفي أن تكون الشريعة في صدد نفي دور العقل أو حذفه، فحفظه لازمٌ
من اللوازم الضرورية لحفظ الدين.
وتنقسم المصالح في فقه أهل السنّة
بلحاظ الأهمية إلى ثلاث مجموعات:
أـ الضروريّات: وهي المصالح التي تضمن حفظ العناصر الخمسة المذكورة في
مقاصد الشريعة (الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال).
ب ـ الحاجيات: وهي من المراتب الأدنى للمصلحة، والتي بدونها تبقى
العناصر الخمسة لكنْ مع عُسْر وصعوبة. فبدون المصالح الحاجيات يكون المكلَّف في حَرَج
أو أنّ متعلَّق المصلحة بالكاد يحقِّق له البقاء.
ج ـ
التحسينيات أو التزيينيات: وهي آخر
مرتبة من مراتب المصلحة. وهي مرغوبة؛ فرغم أنّ بقاء العناصر الخمسة يكون ميسَّراً
بدونها، ولا يشكِّل فقدانها له عسراً وجودياً، لكنّ تحصيلها يتناسب ومكارم الأخلاق
ومحاسن الأدب والعادات([13]).
ومضافاً إلى الغزالي هناك عددٌ
كبيرة من المفكِّرين، أمثال: محمد عبده، رشيد رضا، عبد الله الدراز، محمد الريسوني،
وطه جابر العلواني، استندوا إلى الأسس النظرية لفقه المقاصد؛ من أجل توفير الحلول
الفقهية لتنفيذ وإجراء كليات الشريعة والقواعد الفقهية في الحياة اليومية للفرد
المسلم. وحسب رأي هؤلاء فإنّ تلك الحلول تستطيع إجراء أصول وكليات الشريعة بحيث
تواكب المتغيرات والمستجدات، كما يمكنها بالموازاة أن تصيغ وتهيّئ الحياة السياسية
والاجتماعية الشرعية بالنسبة إلى الفرد والمجتمع المسلم المعاصر. فهذا النموذج من
الفهم العقلاني للشريعة، مع الأخذ بعين الاعتبار ملاك «مصالح ومقاصد الشريعة»، يستطيع إعادة تنظيم الحياة الجماعية، بحيث تواكب وتساير
ما جدّ من أمور الحياة اليومية، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي([14]).
وبشكلٍ دقيق فإنّ الفقه الشيعي لم
يتعامل بشكلٍ عمليّ مع المصلحة إلاّ في السنوات الأخيرة. ففقهاء الأصول الشيعة؛
لإدراكهم المصلحة في سلسلة علل ومبادئ أحكام الشريعة ومصالحها ومفاسدها، لم
يعترفوا بها مصدراً مستقلاًّ في كشف أحكام الشريعة واستنباطها([15]). وفي الحقيقة
إن نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وظهور ما يصطلح عليه بقراءة الإسلام السياسي، يعدّ
نقطة تحوّل مهمة في هذا المجال. فالفقه الشيعي لم يدوِّنْ مباني تفصيليّة مستقلّة
بالمصلحة، وهذا لا يعني غفلته عنها، وإنما كان في وقت الحاجة يتناولها بقراءاتٍ
مختلفة.
إنّ تأسيس مجلس «تشخيص مصلحة
النظام»؛
لاتّخاذ القرارات عند وقوع الاختلاف بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور، جعل ضرورة
تبيين المباني المعتمدة في هذا المبحث متعددةً.
الفقه الشيعي، والذي ينظر إليه
بلحاظ تاريخي أنّه عبارة عن حواشي على فقه أهل السنة، بينما يحفظ هويّته الخاصّة
في تقابله مع ذلك «الغير»، نجده الآن أقرب إلى فقه السنة وأقرب بكثير لما عرف عندهم
بمبحث المصالح المرسلة. ويسعى البعض إلى طرح ضوابط المصلحة في الفقه الشيعي، بحيث
تكون كالتالي: أوّلاً: أن تتمّ المصلحة المشخَّصة تحت غطاء «المقاصد
العامة للشريعة»؛
ثانياً: إن المصلحة المتصوَّرة لا يجب أن تخالف النصوص الشرعية (الكتاب؛
والسنّة)؛ ثالثاً: أنْ تتمّ رعاية قاعدة الأهمّ فالمهمّ؛ رابعاً: لا
بُدَّ من مراعاة الخبرة والتخصُّص المعرفي والعلمي في فهم المصلحة، مع الأخذ بعين
الاعتبار الشرائط الزمانية والمكانية([16]). وهذا الجهد
الجديد في مسير الفقه الشيعي يستحقّ في نوعه الثناء والمدح، رغم أنّه أولاً
ليس في نوعيته إلاّ استقراض من الفقه السنّي؛ وثانياً: إنّه بنفسه لم يستطِعْ
أن يرفع جميع الإبهامات.
وحتى هذه الضوابط فإنّها لا يمكن أن
تكون معياراً في تشخيص المصلحة بشكلٍ تامّ وكامل، وخصوصاً عندما يقع التزاحم بشكلْ
واضح بين حدود دور المواطن والوليّ الفقيه. إنّ القيام بمقارنة غير متكافئة بين
المصلحة في الفكر السياسي الشيعي والمصلحة في الفكر الغربي، قبل تحديد المعيار في
تشخيص المصلحة ومرجعيتها، يوسِّع من دائرة الإبهامات في خصوص المصلحة (شبيهاً
بنظرية الفعل التواصلي لـ (هابرمس))([17]).
ازدواجية دور المصلحة في
الفقه السياسي الشيعي
نظر الشهيد الثاني إلى أن معايير
أحكام الحكومة والقضاء بشكلٍ كلّي هي المصلحة.
ويرى العلاّمة النراقي ـ وهو من
أوئل الفقهاء الذين طرحوا ولاية الفقيه وفق النمط الجديد ـ أنّ معيار تصرّفات
الحاكم الإسلامي في الحكم هي المصلحة.
وبحسب قول صاحب الجواهر فإنّ مَنْ
ليست له شروط القضاء يمكن أن يقضي بالمصلحة([18]).
ونجد الإمام الخميني& قد رفع من مقام عنصر المصلحة في الحكومة الإسلامية، حتّى
أنّه جعله مقدَّماً على الأحكام الفرعية. فهو كان يرى الحكومة من الأحكام ذات الأوّلية
في الإسلام، ومقدّمة على كلّ الأحكام الفرعية، حتّى على الصلاة والصوم والحجّ؛ لأنّها
تمثِّل شعبة من الولاية المطلقة للنبيّ الأكرم|.
ومما لا شك فيه فإن هذه المصلحة تختلف عن المصلحة التنفيذية المتعلِّقة بمقام إجراء
الأحكام، نظير: إنفاق مدخولات الخراج على المصالح العامّة للمسلمين([19]).
ونظرية الإمام الخميني في المصلحة
تجعلها في مقابل مبنى مشهور الفقهاء، حيث جعلوا أحكام الحكومة ضمن دائرة الأحكام
الإلهية الفرعية. كما تقع من جهة أخرى في مقابل نظرية منطقة الفراغ، التي طرحها
الشهيد محمد باقر الصدر&، فقد حدَّد منطقة أحكام الحكومة الإسلامية
في نطاق الأمور المباحة. لكنّ الإمام الخميني يرى أنّ تحديد منطقة المصلحة في حدود
الشرع يكبِّل يد الحكومة. فالحكومة يمكنها أن تلغي من جانبٍ واحد العقود والاتّفاقيات
الشرعية التي عقدتها مع الناس في حال مخالفتها لمصلحة البلاد والإسلام، ويمكنها
منع أيّ موضوع عبادي أو غير عبادي ما دام تنفيذه يعارض مصلحة الدولة الإسلامية،
وتتمكَّن الحكومة أن تمنع فريضة الحجّ ـ التي هي من الفرائض الإلهية المهمّة ـ
منعاً مؤقَّتاً ما دامت تخالف مصلحة الدولة الإسلامية.
يقول&: إنّ ما نسب إليّ من أن الحكومة في إطار الأحكام الإلهية
اختيارية يخالف بشكلٍ كلّيّ ما قلتُه. فلو كانت صلاحيّات الحكومة ضمن إطار الأحكام
الإلهية الفرعية فستكون في عرض الحكومة الإلهية، وستكون الولاية المطلقة التي فوِّضت
للنبيّ الأكرم| بدون محتوى. لكنَّني أرى من الواجب التأكيد على أن الحكومة
شعبة من الولاية المطلقة للنبيّ الأكرم|، وهي مقدمة على تمام الأحكام
الفرعية، حتّى على الصلاة والصوم والحج([20]).
فمن الممكن أن تكون أحكام الحكومة
مرتبطة بالأحكام الأوّلية والثانوية (تماماً مثل قوانين القضاء والحدود
والتعزيرات). الأحكام الإلزامية الواجبة والمحرَّمة في نطاق المباحات (نظير:
قوانين السير والمرور)، الأحكام الحكومية والولائية التي تكون حين وقوع تزاحم بين
الأحكام الأوّلية ومصالح المجتمع (كتعطيل الحج بشكل مؤقَّت)، أو أن تكون أحكام
الحكومة في إطار الأحكام الثانوية (نظير: عنوان الاضطرار والضرر)([21]). فالأحكام
الأولية والثانوية كلاهما تابعٌ للمصلحة، مع وجود اختلاف يكمن في أنّ المصلحة تبدل
الحكم من الأوّلي إلى الثانوي. ومن حيث إن المصلحة في أمور الحكومة غير مقيَّدة
بالأحكام الأولية والثانوية فإنّ الحكومة الإسلامية، بالإضافة إلى العناوين
الثانوية، تستطيع القيام بدور تحديد المصلحة الأولية الابتدائية. وعلى هذا الأساس
في الجمهورية الإسلامية في إيران يعمل مجلس مجمع تشخيص المصلحة، بالإضافة إلى
الحسم في الموارد التي يقع الاختلاف فيها بين مجلس صيانة الدستور والبرلمان، على
تشخيص مصالح النظام ابتداءً. في الوضع الأول إذا رأى مجلس صيانة الدستور أن
البرلمان قد قرَّر توصيات تخالف الإسلام فإنّ مجمع تشخيص مصلحة النظام يقوم
بتجويزها بناء لما لها من المصلحة. أما في الحالة الثانية فالمجمع يوفِّر المباني
والأسس التي تمهِّد للولي الفقيه أن يصدر أحكاماً حكومية على أساسها، وأن يدير
الحكومة ويسيِّر أمورها. وقد عبَّر الشيخ هاشمي رفسنجاني عن ذلك بصراحة: «لقد انهزمنا
عملياً حين ظننا أنّنا، ومن خلال قيد الضرورة، نستطيع حلّ مشكلاتنا مع مجلس صيانة
الدستور. إن تأسيس مجلس تشخيص مصلحة النظام جاء بعد فشلنا وهزيمتنا»([22]).
ولعلّ عدم قطعية الأحكام الحكومية ـ
والتي تدور مدار المصلحة ـ كان سبباً في ذهاب البعض إلى القول بعرفية الفقه الشيعي. وبناءً على
هذا فإنّ المصلحة في الفقه الشيعي والسني عامل يوصلنا إلى العرف والعقلانية، وتعبد
الطريق للبناء العرفي داخل الفقه؛ وذلك لأن الأحكام الأولية والثانوية تصبح ثانوية
أمام المصلحة التي يتمّ تشخيصها من خلال شخصٍ أو أشخاص... وليس من دليل على هذا
المبنى سوى إثبات عرفيّة بناء المصلحة داخل الفقه الشيعي. ولجهة كون المصلحة غير
ذات حقيقة شرعية لا بُدَّ من التشديد على العناصر العُرْفية فيها، وتوضيحها([23]).
والظاهر أن عدم الاحتكاك بالحكومات في
طول المسار التاريخي الإسلامي كان السبب الموضوعي وراء قلّة المباحث في ضوابط
ومعايير المصلحة في الفقه السياسي الشيعي. وهذا هو السبب المباشر وراء الإبهامات
الموجودة في الموضوع، والتي تضع أصل الموضوع تحت شارة الاستفهام. وبما أنّ الولي
الفقيه هو المرجع الأصلي للمصلحة في الحكومة الإسلامية فيتصور أنّه يقوم بتشخيص
المصلحة للأمّة من خلال قراءة للمعطيات الداخلية (الوعي بمسائل الزمان، والظرف السياسي
والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، والظرف العالمي، بالإضافة إلى المعرفة التامّة
بمباني وأحكام الشريعة)، والمعطيات الخارجية (مثل: إيجاد مجموعات أو مؤسَّسات
متخصصة، والتشاور مع أصحاب النظر وأهل الخبرة، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وكلّ الاستفسارات والآراء المطروحة في الموضوع)([24]).
ينفتح الإطلاق في «الولاية
المطلقة للولي الفقيه» على معنيين:
الأول: إنّه غير مقيّد بالأحكام الأولية والثانوية.
الثاني: إنه فوق القانون وأعلى منه.
فالحكم الحكومي على أساس المصلحة،
والعبور من الأحكام الأولية والثانوية، تستطيع التمهيد ليكون الفقه عرفياً، أو ما
يمكن الاصطلاح عليه بعرفنة الفقه في بُعْده النظري والعملي. ويعتقد البعض أنّ
عملية عرفنة الفقه تختلف عن مثيلتها في العالم الغربي؛ لأن العقلانية في الإسلام
قيمية وموضوعية، بينما هي في الغرب ذات ماهية آليّة وصوريّة([25]). والظاهر أنّ
الاختلاف القائل بالعقلانية القيمية (في المصلحة الإسلامية) والعقلانية الآليّة
والصوريّة (في الفكر السياسي الغربي)، والقول بانتفاء أو عدم وجود معنى لعرفنة
الفقه الشيعي، أو جعل العرف مصدراً في التشريع ضمن حوزة الفقه الشيعي، لا يحلّ
عقدة، ولا يأتي بنتيجة. فبملاحظة الإبهامات التي لا زالت تكتنف أجزاء مهمة من
مباحث المصلحة كثيراً ما يوهم التصوّر بأن هذا العقل الشخصي والفردي هو الذي سيكون
ملاكاً ومرجعاً يخول له تجاوز الأحكام الأوّلية والثانوية بمقتضى الحاجة، بالإضافة
إلى عدم وضوح الرؤيا حول معيار العقلانية القيمية والموضوعية في عمل الشخص.
يستدل الذين يرَوْن الولي الفقيه
والأحكام الحكومية مقيَّدة بالقانون على نظريتهم بكون القانون التأسيسي هو بمثابة
ميثاق وطنيّ معنيّ بضرورة الوفاء بمقرَّراته، واحترام مبدأ المشاركة.
يرى الصرافي أنّه في ما يخصّ بعض
الأحكام الحكومية، نظير: العزل والنصب، إصدار البيانات المقطعية، يمكن أن يعرض نظر
الولي الفقيه أو الحاكم (السلطان بشكلٍ عام) للمناقشة، والمشورة من ذوي الخبرة
والمختصّين. لكنْ وفق نظرهم فالتشريع وسنّ القوانين لا يمكن أن توضع على أساس
المقرَّرات الشخصية([26]).
ورغم ما هو مقرَّر في ما يخصّ عملية
الاستنباط في مجال الفقه السياسي الشيعي، من ضرورة التزام الحاكم الشرعي أو الولي
الفقيه بأحكام الشريعة، والتزامه بالتقوى والعدل، لكنّ امتلاكه لقراءة المعطيات
والآليّات المستعملة في استنباط المصلحة، سواء الداخلية منها أو الخارجية، لا يعني
بأيّ حال إضفاء صبغة من الإبهام على الملاكات والمراجع المعتمدة في تشخيص المصلحة.
فالهدف المبدئيّ من تشخيص المصلحة هو التوصُّل إلى الواقع، ولا وجود لمسألة التعبُّدي
هنا. وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ آراء الخبراء وذوي الاختصاص هي المرجع
الوحيد الذي يساعد في تشخيص المصلحة. لكنّ نظرة من الخارج إلى الفقه السياسي
الشيعي تسمح بالقول: إنّ شبح الابهام والغموض دائماً كان حملاً ثقيلاً على رأس
المصلحة. وهذا الإبهام كما ساد جانب ملاكات تشخيص المصلحة كذلك اكتنف على الدوام
ما يخصّ نوعية المراجع المعتمدة فيها([27]).
ومن الإبهامات الأخرى عدم تحديد
المقصود من «مصلحة
النظام».
وبشكلٍ عام هناك عدة تعاريف محتملة لهذا الاصطلاح:
1ـ مصالح الإسلام والنظام الإلهيّ.
وهو تعريفٌ خارج موضوعاً عن موضوعنا.
2ـ المصالح المرتبطة بالنظام
المعيشي للناس، والذي سيخالفه «الاختلال في نظام الحياة والمعيشة». وهو تعريف لا يختلف كثيراً عن مصلحة النظام. وإذا ورد
الكلام عنه في مباحث الفقهاء فالغالب أنّهم يريدون ذا، وهو ما يعني أنّ المراد به
هو «النظام
الاجتماعي»
(system)، وليس «نظام» (regime).
والظاهر أن «رژيم سياسي» ترجمة
لاصطلاح «النظام».
3ـ إن نظام هو ترجمة للفظ «رژيم» لتكون مصلحة النظام هي مجموع المصالح مرتبطة بالحكومة الإسلامية.
وحفظ مصالح الحكومة ككلّ هي أهمّ من المصالح الفردية. وعند وقوع التزاحم مع مصالح
الأفراد والمنافع الجزئية تقدّم مصلحة الحكومة؛ عملاً بقاعدة: الأهمّ فالمهم. لكنْ
لا يعلم إلى أيّ مدى يمكن لمصلحة النظام أن تتقدَّم مصالح الأفراد ومنافعهم. كما
لا يمكن تصوُّر أن استقصاء المصلحة يمكنه أن يعطِّل أكثر الأحكام الإسلامية. لكنْ
وكما يبدو فإن مصلحة النظام السياسي وفق التعريف الأخير تختلف والمعنى الحديث،
الذي أتى مع ماكيافيلي وغيره.
وحتّى نعطي بعض المصاديق لبحث
المصلحة سنتعرَّض لبعض موارد السياسة الخارجية للدولة الإسلامية، ودور المصلحة
فيها. ولعل البحث في السياسات الخارجية يستقدم علينا شبهة مفادها: هل الدولة الإسلامية
مثل الدول العلمانية التي إنّما تأخذ قرارتها وفق المصلحة الوطنية أم أنّ لديها
ملاكات أخرى تندرج تحت عنوان «المصلحة الوطنية»؟
لكنّ ما هو مؤكَّد أنّ الدولة
الاسلامية العصرية في مجال المصلحة تسعى إلى الجمع بين ضدَّيْن: المصالح الوطنية
(شأنها شأن الدول العصرية الأخرى)؛ ومسؤولياتها ما فوق الوطنيّة (بحيث تنظر إلى
مصالح الأمّة الإسلامية ككُلّ).
والمسؤوليات ما فوق الوطنية هي
مجموع المهامّ التي تتحمّلها الدولة الإسلامية غير مقتصرة فيها على المصالح
الوطنية، بل تنظر فيها إلى جميع الأمة الإسلامية وعموم الإنسانية([28]). والجمهورية
الإسلامية ليس فقط أنّها لم تشخِّص حدود مصالحها الوطنية والإقليمية والعالمية على
المستوى النظري، بل حتّى على مستوى الممارسة العملي يلاحظ عليها ازدواجيّة العمل
على جميع تلك المستويات. ومن حيث التوقيت فالملاحظ أن السياسة الخارجية للجمهورية
الإسلامية حاولت في العقود الأولى من عمرها التركيز على القضايا الإقليميّة
والدولية، بينما في السنوات الأخيرة انشغلت بقضاياها ومصالحها الداخلية. وهذا لا
يعني أنها في هذه السنوات الأخيرة قد شخَّصت مصالحها القومية والمصالح الإسلامية،
بل إنّ وظيفتها تجاه الخارج، سواء على صعيد الإقليمي أو الدولي بشكلٍ عام، غير
مشخصة لديها. وباعتقادي فإن الدولة الإسلامية تختلف عن الدولة العلمانية في ما يخصّ
المصالح الفورية والضرورية للأمة الإسلامية، فلا يجب أن تهتمّ فقط بجلب المنافع
والمصالح، أمّا في الموارد الأخرى فإنّ الخبراء والمتخصِّصين بالسياسة والمباني
السياسية؛ بلحاظ الشروط المختلفة الخاصة بالدولة الإسلامية على مستوى الزمان
والمكان ـ وليس على مبنى عالميّة الدولة ـ، يفسِّرون ويبينون حدود المنافع الوطنية
في ما يجمع بين مصلحة الدولة الإسلامية ووظائفها تجاه الخارج.
وتقوم نظريّة الإمام الخميني& في المصلحة على أساس «أنّ الحكومة تستطيع إلغاء اتفاقيّاتها مع الناس أو المؤسَّسات
في حال كانت هذه الاتّفاقيات والعقود مخالفة لمصالح الدولة وإيديولوجيتها (الإسلام)
من طرفٍ واحد، كما تستطيع توقيف كلّ أمر، سواء كان عباديّاً أو غير عبادي رأته
مخالفاً للإسلام»([29]).
وظاهر كلام الإمام& أنّه يقصد اتّفاقيات الحكومة الإسلامية مع الناس، وليس
الاتفاقيات الدولية، رغم أنّ كلامه عامّ، ويوحي بشمولهما معاً.
إذا كان الحكم الحكومي مقدّماً على
أحكام الشريعة فلأن الشارع يرضى بالتعطيل المؤقَّت لأحكامه من أجل المصلحة. لكنّ البديهي
أنّ الشارع لا يقبل بتعطيل أحكامه من دون قيد أو شرط؛ لما فيها من المصلحة. وقد
أمر الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعقود: ﴿أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ﴾، ولا نهي عن إسقاطها وإلغائها على أساس المنفعة الظاهرة
والعابرة لطرفٍ من الطرفين العاقدين، أمّا أنْ تعمد الحكومة الإسلامية إلى نقض ما
أبرمته من عقودٍ؛ لمصلحةٍ وطنية تمّ تشخيصها، حتّى لو كانت تلك المصلحة ظاهرة،
فليس فقط أنها ستجلب لها الضرر على المدى البعيد، بل إنّ الشارع المقدَّس لم يصف
هذه المنافع.
محصلة البحث
في الجملة نقول: إن موضوع المصلحة
في الفقه السياسي الشيعي يواجه العديد من الإبهامات. وأهم تلك الابهامات حَسْب هذا
المقال التالي:
ـ عدم التفكيك والفصل بين استعمالات
المصلحة في الفلسفة الكلاسيكيّة والفلسفة الغربية الحديثة.
ـ عدم التفريق بين المصلحة في
الفلسفة السياسيّة الغربية والمصلحة في الإسلام.
ـ الاستعمال المختلف للمصلحة في
الفلسفة السياسيّة والفقه السياسي.
ـ تهميش المصالح الاجتماعية في
أعقاب تراجع الفكر السياسيّ في إيران والعالم الإسلامي.
ـ اختلاف ملاكات المصلحة في الفقه
السياسي عنه في الفقه السنّي.
ـ سوء إبرام مفهوم «المصلحة» في الفكر الإسلامي،
ما أدّى إلى خلط مفهوم «المصلحة» و«المصلحة الوطنية» مع «المنفعة» و«المنفعة الوطنية».
ـ وجود الغموض والإبهام في ملاكات
تشخيص المصلحة، و«حفظ النظام»، وخصوصاً في الفقه السياسي الشيعي.
ـ عدم التمييز الدقيق بين مصلحة
النظام، بمعنى مصلحة الدولة، ومصلحة النظام، بمعنى مصالح النظام الاجتماعي.
ـ الغموض في ما يخصّ المقصود من
ملاكات المصلحة، والمنفعة الدنيوية والأخروية والعقلية والتعبدية.
ـ الغموض في ما يخصّ تشخيص مرجعية
المصلحة، هل هو الوليّ الفقيه (الحاكم) أو الخبراء أو الناس؟
ـ العمل على المقارنة بين «المصلحة» في الفكر
السياسي الإسلامي والغرب، وتطوّر مفهومها عمّا كان عليه قبل توضيح الموارد السابقة
وبيانها.
كلّ هذه الإبهامات التي ذكرناها تؤدّي
إلى تأثير مزدوج في الجانب العملي.
فمن جهة عنصر المصلحة يتمكَّن من حلّ
مشكلات النظام، لكنه يغيِّر محورية الفقه الشيعي من الفرديّة إلى المؤسَّساتية،
رغم أن هذا لم يحصل بشكلٍ كامل حتّى الآن([30]). وبالطبع فإنَّ
تحكيم العُرْف بدل الشَّرْع المقدَّس في سياسة الدولة الإسلامية يخرج الدولة من
محدودية الأحكام الأوّلية والثانوية مطلقاً. وهو ما ذهب إليه الإمام الخميني، حين
فسَّر إطلاق الولاية بأنّها تقدّم أحكام الشرع الأوّلية والثانوية.
ومن جهة ثانية يحتمل أنْ تكون كلّ
تلك الإبهامات سبباً في تحديد أو تهديد الحرّيات والفعاليات المدنية.
ولفتق حجاب بعض تلك الإبهامات أعتقد
أنه لو تمَّت قراءة الحكومة الدينية بحيث تنحصر المرجعية في الجانب السياسي لها
ضمن حدود الدين والأسس الدينية، وبالنتيجة عدم قبول حجية واعتبار العقل، فإنّ
المصلحة العامة ستفقد العديد من عناصرها في السياسة العصرية.
وعلى العكس نموذج «الحكم
الدستوري»،
للعلامة النائيني، والذي يستند إلى مبدأَيْ الحرّية والمساواة، ومعرفة حدود منطقة
الفراغ والعقل البشري والقانون الأساسي ومجلس الشورى، إذ ستصير له مكنة الشروط
الأوّلية، وظرفيّة المصالح العامة ـ باعتبارها ركناً أساسياً في وظيفة الدولة ـ([31]).
وبالطبع فإن الاستفادة من الوضعية
التي أوجدها النائيني وآخرون مرهونةٌ باعتبار الفرق بين مفهوم المصلحة في الفلسفة
السياسية الغربية والإسلام والفقه السياسيّ، مع الأخذ بعين الاعتبار قدرة المفاهيم
القديمة والتقليدية في تغطية المفاهيم المعاصرة والحديثة، وقدرة «عرض مميَّز
للمفاهيم العصرية على الدين، ومدى احتوائه لها أو عدم احتوائه لها».
ومن المغالطات الرائجة الاعتقاد أن
ليس هناك اختلاف بين المفاهيم العصرية والمفاهيم التقليدية. ويمكن القول: إنّه ليس
هناك فاصل محكم بين كلٍّ من تلك المفاهيم.
الحلّ الثالث الذي يقدِّمه الكاتب
هو أنّه رغم عدم وجود أغلب المفاهيم العصرية في التشريعات والفكر الديني، إلاّ أن
لها بعض المؤشِّرات التي يمكن عرضها على الدين، ومن ثم ننظر مدى توافقها وإيّاه أو
عدم توافقها.
في ما يخصّ اصطلاح «ميزان السعة» هناك عدّة
مسائل تفرض علينا نفسها: تباين المفاهيم العصرية والدين (بمعنى عدم وجود مفاهيم
عصرية وحديثة في الدين)، قابلية المفاهيم الدينية للمقارنة والمفاهيم العصرية، إمكان
التعرُّف على مميزات المفاهيم العصرية، إمكان عرض تلك المميّزات على الدين، والنظر
إلى مدى تناغمهما وانسجامهما وفق ميزان مشخَّص([32]).
وفي ختام هذا المقال لا يسعنا إلاّ
التذكير بكلمة الإمام الخميني، حيث قال: «إنّ مصلحة النظام من الأمور المهمّة، حيث إن التغافل عنها
يمكن أن يكون سبباً موضوعياً في انهزام المنظومة الفكريّة الإسلامية، لا سمح الله».
الهوامش
(*) باحثٌ في الحوزة والجامعة. حائزٌ على
دكتوراه في العلوم السياسية. عضو الهيئة العلمية في كلية الفكر السياسي الإسلامي،
وأستاذٌ مساعد في قسم العلوم السياسية في جامعة المفيد في قم.
([8]) فاكر
ميبدي، «مصلحت نظام در أنديشه إمام خميني»؛ إمام خميني وحكومت إسلامي، 7 (أحكام
حكومتي ومصلحت): 321 ـ 323.
([16]) الصرامي،
أحكام حكومتي ومصلحت: 214 ـ 256؛ الصرامي، در آمدي بر
چالشهاي نظري مصلحت ودموكراسي در أنديشه سياسي شيعه: 181 ـ 185.
([24]) تقوي،
«مصلحت به عنوان پارادايم حكومت إسلامي»، إمام خميني وحكومت إسلامي، أحكام حكومتي
ومصلحت 7: 84 ـ 89.