نصوص معاصرة،
ش 23 (صیف 2011)
تمهيد ــــــ
للعلمانية إفرازات متعددة بتعدد المباني المعرفية في كل
مجال. فهي قد تعني نفي القدسية عن تفاصيل المجتمع والسياسة وسائر المسائل البشرية؛
وأيضاً هي بمعنى فصل الدين عن السياسة؛ أو قد تعني أيضاً فصل المؤسسة الدينية ـ
الكنيسة في المسيحية، والفقهاء في الإسلام ـ. وهناك شكل من العلمانية المذكورة في
هذين المجالين يمكن لمسه على صعيد الفكر السياسي الإسلامي والشيعي أيضاً. ويراد من
«العلمانية الإسلامية» هنا هو الاعتقاد بفصل الدين عن السياسة، أو عن مؤسساتها؛
استناداً للأدلة الدينية ـ أعم من كونها أدلة نصية أو غير نصية لكنها تنسجم مع
الدين ـ. وتشكل هذه الرؤية نقطة البداية في نفي القداسة عن عالم السياسة والمجتمع،
وإن كان على تفاوت مع وجهة العلمانية في الغرب.
لقد جسّد العلمانيون الشيعة أصحاب الأدلة غير النصية ـ
أمثال: مهدي الحائري، وسروش، وشبستري ـ المعنى الحرفي للعلمانية، في حين كانت
لأصحاب الأدلة النصية ـ كالآخوند الخراساني والبروجردي ـ آراء ونظريات مهّدت لنفي
القدسية عن السياسة. وبهذا الاعتبار فقط يمكن تناول آرائهم في هذا المقال. كما قد
يوجد علمانيون لا هم من الدين ولا من أصحاب الأدلة الدينية ومع ذلك ينسبون إلى أحد
المفهومين المتقدمين. فعلمانية هؤلاء ليست دينية. ولن يتطرق المقال الحالي إلى هذه
المجموعة، ولا إلى دعاة الإسلام السياسي. وتعتقد هذه المجموعة ـ كالقائلين بولاية
الفقيه ـ بأن الإسلام قد قدّم نظاماً خاصّاً للحكم والسياسة. ولعلّ من الممكن
تحديد أبرز مميزات الإسلام السياسي عن العلمانية الإسلامية في ما يلي:
1ـ الاعتقاد بتطبيق الشريعة عن طريق الحكومة الدينية في
زمن الغيبة.
2ـ نظرية الثورة «العنف».
3ـ يصبّ الإسلام الثقافي جلّ اهتمامه في زمن الغيبة على
القضايا الثقافية، ويحصر الخوض في السياسة وتشكيل الحكومة بحالات الاضطرار فقط([1]).
وينقسم العلمانيون الدينيون بدورهم إلى قسمين: الأول:
أولئك الذين تشكل الأدلة غير النصية (meta - textual reasoning) أو العقلية الأساس في متبنياتهم،
فيقدمونها على الأدلة الدينية. والثاني: هم الذين يقولون بضرورة الاستدلال
على العلمانية الدينية من الأدلة النصية (textual reasoning)، أو النصوص المقدسة من كتاب وسنة. أما هدف هذا المقال فهو دراسة
العلاقة بين العلمانية والإسلام، ونعني به هنا التشيّع خاصة.
مفهوم العلمانية ـــــ
كان
(هولي يوك) [holy yook] أول من أطلق هذا الاصطلاح في
إنجلترا. وكان يسعى من خلاله إلى فصل التربية والتعليم والصحة وسائر الخدمات
العامة عن المؤسسات الدينية، ونقلها إلى صلاحيات الحكومة([2]).
ولم يكن في المسيحية فصل بين السياسة والدين ومؤسّساتهما؛ لأن المسيحية لم تكن ذات
توجهات سياسية كثيرة لكي يطرح هذا الموضوع أساساً، أي كان الأمر ـ كما يصفه (توماس
هابز) ـ عبارة عن تبعية الإرادة المدنية للإرادة المقدسة، أو بالعكس ـ وقد استدل
(هابز) على تبعية الإرادة المقدسة للإرادة المدنية بستة أدلة. وكان يعدّ الملوك
المسيحيين المسؤول الأول عن القضايا الدينية أيضاً([3]).
ويختلف الإسلام عن المسيحية بنقطتين، قد تبدوان متناقضتين للوهلة الأولى، وهما:
1ـ يتمتع الإسلام بمساحة من الحرية في المجالات
الاعتقادية والفلسفية، مما جعله أكثر ترحيباً بالفلسفة اليونانية من المسيحية.
2ـ يشتمل الإسلام ـ وخلافاً للمسيحية ـ على تعاليم عديدة
في الاجتماع والسياسة، من قبيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلاة الجمعة،
وعمل القضاء. ولهذا لا يمكن أن يكون علمانياً بسهولة ما حصل مع المسيحية.
انتشرت مفردة (secularism) في الأغلب في الدول البروتستانتية، وهي مشتقة من كلمة لاتينية (seaculom)، وتعني (العالم). بينما كانت
لفظة (laicite) هي الشائعة في
الدول الكاثوليكية في أوروبا. أما مصطلح (laos) فهو بمعنى «الناس»، و(laikos) أي (عامة الناس)، في مقابل
الكهنة ورجال الدين. وقد اتخذنا في هذا المقال من العلمانية ترجمة لمصطلح (secularism)، وإن كان (داريوش آشوري) قد ترجمه بالمطالبة بفصل الدين، وترجم (laicite) بترك الدين([4]).
وقد رأى السيد جواد الطباطبائي مغالطةً في القول بترادف هذا المصطلح مع العلمانية،
بدليل اختصاص الأول بالحكومة الفرنسية بعيد الثورة، فقال: «أحيانا يجعلون كلمة (laicite) مرادفاً لمصطلح (secalar). وهذا ليس صحيحاً إطلاقاً.
فالأول إنما هو مصطلح فرنسي، وكان يستعمل منذ البداية في شرح نظام الدولة المنبثق
عن الثورة الفرنسية، ولا يمكن إطلاقه على أي نظام حاكم أوروبي ـ مسيحي، باستثناء
فرنسا، والمكسيك، ونوعاً ما تركيا، التي تعد مقلّدة لفرنسا من هذا الجانب»([5]).
ورغم القول بترادف هذين المصطلحين يمكن التوصل إلى نقاط
اختلافهما بشيء من التدقيق في جذورهما. فالـ (laicite) هي تلك الحالة أو الأساس في فصل
الدين عن السياسة أو مؤسّساتهما. وقد كانت الدول الإنجلوساكسونية هي الأقرب إلى
تقبل ظاهرة الفصل هذه، بمعنى إلغاء دور الدين في المجالات العامة، وفصل المؤسسة
الدينية عن المؤسسة السياسية، ولهذا لم يصل الأمر بهم إلى بعض المراحل المتشدّدة،
من قبيل: محاربة المظاهر الدينية، كالحجاب مثلاً؛ بينما صدر ذلك من فرنسا وتركيا.
ويرى (داورسن) أن تبعية الدولة للدين هي عبارة عن الحكومة الدينية بعينها، وأن
تبعية الدين للدولة هي حكومة شبه دينية، أما الفصل بينهما تماماً فهو من مميّزات
الأنظمة العلمانية([6]).
وليست هذه التسمية دقيقة؛ نظراً لتقسيمات الدين والدولة ومؤسّساتها التي سنعرض لها
خلال البحث.
و«العلمانية» في اللغة العربية هي ترجمة لكلمة «secularism». فذهب (محمد عمارة) إلى أن (لويس
بقطر) هو أول من ترجم اللفظة سنة (1828م). وقال (عزيز العظمة) بأن اللفظة مشتقة من
العلم([7]).
في حين نسبها (عادل ظاهر) إلى لفظ «العالم»([8]).
وقد قال (ناصيف نصار) في شرحها: إن العلمانية تهدف إلى التنمية والتطوير، وترفض كل
أشكال الشمولية والمقتضيات التاريخية الاجتماعية وضرورات العقل والفلسفة([9]).
وليس هذا التفسير صحيحاً أيضاً؛ فالعلماني قد يكون شمولياً، كرضا شاه، وأتاتورك.
إن هذه المغالطات نشأت بفعل الاقتران والتزامن الحاصل بين نظريتين أو مذهبين. وبما
أن العلمانية كانت في الغرب مصاحبة لظهور الليبرالية وقع هذا التصوّر، فقيل: لاشك
أن هذا المفهوم يعارض مبدأ الشمولية.
هناك فرق بين مصطلح (secularism) ومصطلح (secularization). فالعلمانية هي رؤية ونظرية
تفترض فصل الدين عن السياسة، أو بين مؤسّساتهما، أما التعلمن فهو عملية تقبل دينٍ
ما أو مجتمعٍ لعناصر العلمانية ومقوّماتها، فيتغير بهذه المجريات. فعلى سبيل
المثال: يعدّ البعض الإمام الخميني علمانياً؛ بسبب إدخاله بعض العناصر من قبيل:
المصلحة في الفقه، ولهذا قيل عنه: فقيه مرحلي([10]).
وعلى أية حال فإن موضوع المقال هو العلمانية، وليس التعلمن.
أنماط
العلمانية في الإسلام ــــــ
إذا قلنا بالتفريق بين علمانية الإسلام وعلمانية
المسيحية سنتمكن من الحديث عن أنماط ومستويات العلمانية بين مفكّري الإسلام. فمن
بين علماء أهل السنة يعد (علي عبد الرزاق) رائد العلمانية الإسلامية المبتنية على
الأدلة النصية؛ حيث اعتمد في استدلالاته على آيات القرآن، فتوصّل إلى أن واجب
الرسول‘ هو تبليغ للرسالة فقط، وبما أن هذا الواجب لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق
الحكم ظهرت الحاجة إلى وسيلة اسمها الدولة، وإلا لم تكن السياسة من ذاتيات الرسالة
إطلاقاً. وبما أن الرسول‘ كان خاتماً للرسل والرسالات فقد انتفت الحاجة إلى الحكم
والدولة، وبهذا يعزل الدين عن السياسة([11]).
ويبدو أنه يقصد فصل المؤسسة السياسية عن المؤسسة الدينية، وليس بالضرورة فصل الدين
عن السياسة.
بينما يذهب السيد جواد الطباطبائي إلى أن العلمانية لا
تناسب ولا يمكن تطبيقها في إيران، ويعتقد بأن مصطح (leicite) ومشتقاته من المفردات المسيحية،
ولا يمكن استعمالها في القاموس الإسلامي أبداً([12]).
في حين أن هذه المفردات موجودة، ونحتاج إليها في مواضيع علاقة رجال الدين بالدولة
من جهة، وفي معرفة الحدّ الأدنى والأقصى بالنسبة لموقعية الدين من جهة أخرى،
وسيمرّ بنا كيف ارتبطت (الحركة الدستورية) أو المشروطة بنوع من العلمانية الدينية،
واستمرت على ذلك. هناك أيضاً من يرى أن علمنة الإسلام «سالبة بانتفاء الموضوع»؛ لأن
الإسلام ليس فيه كنيسة لكي تفصل عن الدولة. وعليه لابدّ من استبدال العلمانية
بمفاهيم الديمقراطية والعقلانية([13]).
ولا يبدوا هذا الرأي سديداً جداً؛ لأن في الإسلام نظام خلافة عند السنة، وحكومة
الفقهاء عند الشيعة. وكما كان الكلام في المسيحية عن اتحاد أو فصل الكنيسة والدولة
فكذلك في الإسلام هناك كلام عن إمكانية تدخل رجال الدين في الدولة أو عدمها، حتى
وصل الأمر إلى دمج المؤسّستين في نظرية الخلافة ـ عند بعض علماء السنة في أقل
تقدير ـ، وفي نظرية ولاية الفقيه ـ عند بعض علماء الشيعة. فالصواب أن نقول: إن
العلمانية في المسيحية هي عبارة عن نفي القدسية عن جميع شؤون الحياة ـ ولاسيما فصل
الكنيسة عن الدولة ـ، أما في العالم الإسلامي فأحياناً يطلق المصطلح ويراد منه فصل
الدين عن السياسة، وهذا هو المعنى المتبادر من اللفظ بين المسلمين في بادئ الأمر؛
وأحياناً أخرى يراد منه فصل رجال الدين عن الدولة. طبعاً هناك فرق أساسي بين
الإسلام والمسيحية، وهو أن ولادة الإسلام كانت مصاحبة لتأسيس الدولة، بينما كانت
المسيحية في صدد دعم الدولة، الأمر الذي جعل الإسلام معبّأً بالمفردات السياسية،
كالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلاة الجمعة ـ. كما لم يكن الإسلام
قد أخذ طابع القدسية في مجالات الحياة ـ كالمسيحية في القرون الوسطى ـ لكي يحتاج
إلى علمنته. فقد يكون المفكّر على صلة بالدين والسياسة لكنّه لا يؤمن بضرورة تطبيق
هذا الشأن من قبل رجال الدين والفقهاء. ولهذا السبب كان (جان دايه) يصف الكواكبي
بالعلماني([14]).
وقد عقد ابن خلدون باباً في مقدمته في إخراج الفقهاء واستثنائهم من سائر الناس من
الدخول في السياسة وأساليبها([15]).
لقد وضع عبد الكريم سروش أربعة معانٍ دقيقة للعلمانية:
1ـ الانتفاع بنعم الدنيا، في مقابل النزعة الصوفية
واعتزال الناس.
2ـ إلغاء دور رجال الدين في الدولة.
3ـ فصل الدين عن السياسة.
4ـ العلمانية الفلسفية العلمية؛ أي الاستغناء عن الرؤية
الدينية في قراءة وفهم العالم([16]).
وبما أن المعنى الأول والثالث ليسا على صلة بموضوع المقال فقد بقي علينا أن نميّز
فقط بين مسألة تدخّل رجال الدين في أمور الدولة ومسألة علاقة الدين بالسياسة.
علماً أن الدكتور سروش يرى أن المعنى الأول صادقٌ بالنسبة إلى المسيحية ولا يصدق
على الإسلام؛ لأنه لا يوجد في الإسلام اشتراط يقضي بضرورة تصدي رجال الدين([17]).
وهذا الكلام ليس دقيقاً أيضاً؛ لأن هذا الاشتراط موجود في بعض نظريات الاجتهاد في
مناصب القضاء والقيادة في أقلّ تقدير. وعليه يبدو أن الأنماط المذكورة ليست كاملة
على صعيد المسيحية، ولا على صعيد الإسلام. ولهذا تناولنا نمطيات علاقة الدين
بالسياسة في الإسلام بشكل كامل في مقال مستقلّ، وكانت على النحو التالي([18]).
1
ـ علاقة الدين والسياسة ــــــ
أ ـ المؤيدون:
1ـ القائلون بالحدّ الأقصى.
2ـ القائلون بمنطقة الفراغ.
3ـ القائلون بالحدّ الأدنى.
ب ـ المعارضون:
1ـ مع الاعتراف بالدين.
2ـ المنكرون لأساس الدين أيضاً.
2
ـ علاقة المؤسسة الدينية بالدولة ــــــ
أ ـ الدمج بينهما.
ب ـ التفاعل:
1ـ إشراف المؤسسة الدينية على الدولة.
2ـ إشراف الدولة على المؤسسة الدينية.
3ـ التعاون بين الاثنتين.
ج ـ الاستقلالية:
1ـ القائلون بالتفكيك.
2ـ القائلون بالعزلة.
3ـ القائلون بالتفصيل.
4ـ المعارضون للمؤسسة الدينية.
ومن بين هذا الأقسام يعتبر المعارضون لعلاقة الدين بالدولة،
والقائلون باستقلالية المؤسسة الدينية (رجال الدين) عن المؤسسة السياسية (الدولة)،
هما الأقرب إلى منحى العلمانية. أما الأقسام المعنية بالبحث الحالي فهم المعارضون
لعلاقة الدين بالسياسة، مع الاعتراف بأصل الدين، والقائلون بالتفكيك، وكذلك
القائلون بالتفصيل. ويراد من أرباب التفكيك أولئك الذين لا يرون علاقة بين واجبات
الفقهاء وشؤون الدولة ـ أمثال: سروش، ومهدي الحائري ـ؛ ولهذا فكّكوا بين هذين
الشطرين، أما السيد جعفر كشفي فهو يحسب على العلمانيين بسبب أنه يرى شرعية النظام
الملكي مستمدة من الله عزّ وجل، وليس من الفقهاء؛ وعليه يكتسب كلٌّ من الفقيه
والشاه [الملك] شرعيتهما بشكل منفصل من الخالق عزّ وجل([19]).
أما القائلون بالتفصيل فهم يفرّقون بين عصر الغيبة وعصر الحضور المعصوم×، فعلى
الرغم من اعترافهم بدور المعصومين^ السياسي لا يعمّمون هذا الحقّ للفقهاء في زمن
الغيبة ـ كالآخوند الخراساني، وعبد الكريم الحائري ـ.
«الحركة
الدستورية» والعلمانية الشيعية ــــــ
يرفض بعض مفكّري الشيعة أية حركة أو ثورة قبل ظهور
الإمام المهدي#، فيختارون العزلة السياسية بنحو من
الأنحاء، من قبيل: المنظّرين لرابطة الحجية، فهم في الواقع يفرّقون في علاقة
المؤسسة الدينية والدولة بين عصري الحضور وعصر الغيبة. ومع أنه يمكن إدراج هذه
الجماعة تحت عنوان العلمانية الإسلامية المعتمدة على الأدلة النصية، غير أنها لا
تندرج في موضوع المقال؛ نظراً لافتقارها إلى نظرية سياسية مدروسة، واختيار أربابها
العزلة السياسية أيضاً، كما أنهم لا يقدمون حلولاً للتعامل مع المتغيرات والتجدّد.
لم يؤيّد الآخوند الخراساني رأي المشهور في مسألة ولاية
المعصومين^، وقدم نظرية جديدة؛ حيث ذهب إلى أن الولاية المطلقة إنما هي من مختصّات
الربوبية، وأن ولاية الرسول‘ التشريعية مقيّدة بالأمور الكلية والحساسة في
السياسة. ورأى أن أدلة الولاية في الأمور الإجرائية الجزئية عاجزةٌ عن الوفاء
بذلك. وحسب رأيه فإن سيرة الرسول‘ والأئمة^ تكشف عن عدم التدخل في حياة الناس
الخاصّة. يقول الخراساني في نقد رأي الشيخ الأنصاري: >فاعلم أنه لا ريب في
ولاية [الإمام] في مهام الأمور الكلية المتعلقة بالسياسة، التي تكون وظيفة من له
الرياسة. وأما في الأمور الجزئية المتعلّقة بالأشخاص، كبيع دار وغيره من التصرف في
أموال الناس، ففيه إشكال، مما دلّ على عدم نفوذ تصرف أحد في ملك غيره إلا بإذنه،
وأنه لا يحلّ مال إلا بطيبة نفس مالكه، ووضوح سيرة النبي‘ في أنه كان يتعامل مع
أموال الناس تعامل سائر الناس، ومعادل من الآيات والروايات على كون النبي‘ والإمام
أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وأما ما كان من الأحكام المتعلقة بالأشخاص بسبب خاص، من
زواج وقرابة ونحوهما، فلا ريب في عدم عموم الولاية له، وأن يكون أولى بالإرث من
القريب، وأولى بالأزواج من أزواجهم. وآية {النَّبِيّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنينَ}
إنما تدل على أولويته في ما لهم الاختيار، لا في ما لهم من الأحكام تعبداً وبلا
اختيار. بقى الكلام في أنه هل يجب على الناس اتباع أوامر الإمام والانتهاء بنواهيه
مطلقاً، ولو في غير السياسات، وغير الأحكام، من الأمور العادية، أو يختص بما كان
متعلقاً بهما؟ فيه إشكال. والقدر المتيقن من الآيات والروايات وجوب ذلك في ما صدر منهم من جهة النبوة والإمامة([20]).
وعلى الرغم من عدم مخالفة الخراساني للحركة الدستورية (المشروطة)، وعدم اعتبارها
مخالفة للشرع، فإنه كان يرفض وصفها بالحكومة «المشروعة». ولم تكن القضية لفظية
فقط؛ لأنه لم يكن يرى وجود حكومة مشروعة إلا حكومة المعصوم×. وفي رأيه الآخر رفض
ولاية الفقيه بشكل مطلق، حين نفى ولايته في الأمور الحسبية. وفي الواقع لا فرق بين
الفقيه وغيره في المجالات العامة. وقد فتح رأيه الداعي إلى التجديد هذا([21])
باباً في المشروطة، وصار مدخلاً للآخرين في ما بعد المشروطة أيضاً.
العلمانية
الدينية بعد الحركة الدستورية ــــــ
إذا كان بالإمكان أن نتسامح في إطلاق مصطلح «العلمانية
الدينية» فإن هذا المفهوم ـ سواء بمعنى فصل الدين عن السياسة أو بمعنى فصل المؤسسة
الدينية عن المؤسسة السياسية ـ قد تعرض إلى تحوّلات عقب الحركة الدستورية، حيث
اعتمد البعض على الأدلة النصية، والبعض الآخر على الأدلة غير النصية؛ سعياً وراء
التنظير لعلمانية منبثقة من داخل الدين نفسه. لقد تطور مفهوم العلمانية عقب
المشروطة كثيراً، سواء على صعيد الفقه السياسي ـ عند عبد الكريم الحائري والأراكي
ـ أو على صعيد الفلسفة السياسية ـ عند مهدي الحائري ـ، وحتى على صعيد الفكر الديني
ـ عند سروش وشبستري ـ. وكما ذكرنا فإن بعض الشخصيات، أمثال: عبد الكريم الحائري،
والأراكي، ليسوا علمانيين بالمعنى الدقيق، لكن أفكارهم تلتقي مع توجهات العلمانية
نوعاً ما.
يمكن أن لا يؤدي التفصيل بين زمن الغيبة والحضور ـ من
الناحية الفقهية ـ إلى العزلة السياسية؛ فحين توفي السيد أبو الحسن الإصفهاني عام
(1324هـ) انتقلت المرجعية إلى السيد حسين البروجردي، على الرغم من وجود علماء
أكفاء في النجف وقم، في حين كان البروجردي من أشدّ المؤيدين لأفكار الحائري
والإصفهاني في ضرورة إبعاد الدين عن الساحة السياسية، ولم يترك أحداً من رجال
الدين يتصادم مع الدولة طيلة حياته. وتشير الأحداث والمجريات إلى أن كبار المجتهدين
وأساتذة الحوزة في النجف وقم كانوا على خط البروجردي في مسألة تجنّب المواضيع
السياسية.
كان هناك العديد من كبار العلماء في طهران وقم والنجف،
أمثال: صدر الدين الصدر، ومحمد تقي الخوانساري، وحجت كوه كمري، والمحقق الداماد،
وبهجت الگيلاني،
والشاهرودي، والخوئي، والبهبهاني، وغيرهم، لكن الخوانساري هو وحده من دعم (مصدّق)
علناً، ولمدة قصيرة انتهت بوفاته. إن أبرز المحاولات في هدم الجدار العازل بين
الدين والسياسة، ودخول رجال الدين المعتركات السياسية، هو ما تمّ على يد حركة
(فدائيو الإسلام)، وانضمامها فيما بعد إلى حملة الكاشاني السياسية، التي كان
البروجردي قد اتخذ موقفاً معارضاً حيالها. ويمكن تسمية هذا الانقسام بالمواجهة بين
«الإسلام السياسي» و«الإسلام الثقافي»؛ حيث كانت اهتمامات الإسلام الثقافي في
الفكر الشيعي تتمحور حول تبليغ الدين والقضايا الثقافية أكثر من اهتمامه بالأمور
السياسية وبناء الدولة. أما في الجانب الآخر فقد كانت من أهم مميزات وأهداف
الإسلام السياسي ما يلي: وجوب تأسيس الدولة في عصر الغيبة؛ القيام بالثوة والعنف؛
ورفض التجديد ومظاهره، من قبيل: المفاهيم السياسية الحديثة، وحقوق الإنسان.
قد يكون الفقيه القائل بمحدودية ولاية وصلاحية الفقهاء
في الأمور الحسبية ـ كعبد الكريم الحائري، واليزدي، ومحمد علي الأراكي ـ لا يرشّح
الفقهاء كأفراد صالحين للحكم حسب القدر المتيقّن. فهو يرى واجب الفقيه في تطبيق
الحدود، وتولي بعض المهام، من قبيل: الإفتاء، والقضاء، والولاية على القاصر، وهي
مسائل لا دخل لها بإدارة المجتمع؛ فإن واجب الحفاظ على هيبة الإسلام وإدارة شؤون
المسلمين لا يختصّ بأحد دون غيره من الناس، بل هو واجب على كل من تمكَّن من أدائه،
فلم ينصب أو يوكّل الفقهاء من قبل الإمام المهدي# بإدارة المجتمع، وعليه يحق لغير
الفقهاء التصدي لهذه المهمة أيضاً. أما حكومات الملوك العادلين، الذين هم على
استعداد لتسليم الحكم إلى الإمام# في حال حضوره، فهي حكومات ذات مشروعية([22]).
ووفقاً لهذا الرأي والأدلة الفقهية لن نحصل على طريقة خاصة للحكم في عصر الغيبة.
وإذا كنا لا نريد أن نحدد هذا الرأي بنظرية السلطة المشروعة سيبقى احتمال تبنينا
القول بنمط من الحكم العلماني والديمقراطي الدينية في عصر الغيبة الكبرى قائماً.
وتعد هذه الحكومة الدينية موظّفة بتطبيق أحكام الشريعة اللازمة حسب ما أثبت هناك
في البحوث النظرية. وكما صار يمكن وصف هذه النظرية بالعلمانية؛ بسبب تبنيها فصل
المؤسسة الدينية عن الدولة، كذلك يمكن؛ للسبب نفسه، تسميتها بـ >العلمانية
الدينية< أيضاً. وعليه فإن العلماء فيها ليسوا علمانيين بالمعنى الدقيق للكلمة،
ويمكن فهم توجهاتهم السياسية من خلال قيد >الإسلامي<، فإن مبانيهم الفكرية
تلتقي نوعاً ما مع المباني العلمانية. وهذه الجماعة لم تصف نفسها ـ كالجماعة
الأولى ـ بالعلمانية الدينية بشكل محدّد وبارز؛ وليس السبب في ذلك سوى انتفاء
موضوع هذا النوع من المسائل لديهم، فلم يكن عبد الكريم الحائري أو الأراكي على
اضطلاع بعلم السياسة، ولهذا لم يروا ضرورة للردّ على الأسئلة الناتجة عن مواجهة
التجديد. وهما لم يخوضا أبداً في القضايا السياسية، ومسألة مواجهة التجديد. ومن
هنا يتضح الفرق بينهما وبين العلمانيين الذي اعتمدوا على الأدلة غير النصية.
فهؤلاء العلمانيون الإسلاميون كانوا قد بادروا إلى الردّ على سؤال الحداثة وحقوق الإنسان؛
نظراً لقربهم من الحضارة الجديدة ومتطلّباتها، وكذلك بلحاظ موقعيّتهم بين
المفكّرين الدينيين.
إن من أهم إيجابيات العلمانية الإسلامية ذات الأدلة
النصية هو حضور الكتاب والسنّة، والاعتماد على آلية الاجتهاد الفقهي فيها. وكأن
المخاطب مطمئن حيال الموضوع، نظراً لكون كلام الله ـ عزّ وجلّ ـ هو المصدر فيه.
وعليه سيقول: ليست الإرادة الإلهية غير ذلك. وحين عمد البعض أمثال: الحائري
المؤسّس، والأراكي، إلى نفي الولاية السياسية عن الفقهاء ظهر نوع من الثقة؛ كون
تلك الآراء تستند إلى الكتاب والسنة، لكن من جهة أخرى يعود السبب في ضعف نجاح هذا
النوع من النظريات في تاريخ الفكر السياسي في الأغلب إلى العوامل التي مرّ ذكرها،
من قبيل: قلّة اطّلاع أصحابها على المفاهيم السياسية بنحو من الاختصاص، وعدم
مواجهتهم للتجدد ومتطلّباته، وعدم تدخل بعضهم بشكل مباشر في المجريات السياسية،
وكذلك عدم المسؤولية تجاه ما يظهر من تيارات فكرية واجتماعية وسياسية؛ ونظراً
لافتقارهم إلى قناعات ومواقف إيجابية في هذا المجال. وفي الواقع فإن هؤلاء لم
يكونوا منظّرين سياسيين حين تبنّوا هذا الرأي، وإنما كان ذلك انطلاقاً من
اجتهاداتهم المتعلّقة بهذه المسألة الفقهية، وبعبارة أخرى: أكثر دلالة يمكن
استنتاج هذه النظرية ـ العلمانية الإسلامية ـ من بين أقوالهم وآرائهم الفقهية.
فالبروجردي ـ بوصفه من الداعمين الأوائل لنظرية الإسلام الثقافي ـ لم يسمح طيلة
حياته، أي حتى عام(1340)، للإسلام السياسي بالظهور والحركة. فهو يرى أن الخوض في
السياسة مقيّد بالضرورات، حتى بالنسبة للأنبياء والأئمة^، أي لم تكن السياسة من
واجباتهم الأصلية([23]).
فحتى المعصومون^ لا يتدخلون في السياسة إلا لمصلحة وضرورة ملحّة. ففي الحقيقة ليست
الولاية السياسية من خصوصياتهم الذاتية. على أن رأي البروجردي هذا لا يتنافى مع
قوله بولاية الفقهاء التنصيبية، وفقاً للدليل العقلي ودليل القدر المتيقن عنده؛
وذلك لأن الولاية السياسية هنا ليست من ذاتيّات عملهم؛ بل إن >تنصيبهم< هذا
جاء بداعي >المصلحة< فقط.
نظرية
الوكالة عند مهدي الحائري ــــــــ
أما بالنسبة لنظرية >الوكالة< عند مهدي الحائري
فليست العلاقة منتفية بين رجال الدين والسياسة فحسب، بل تعدّ السياسة برمّتها من
الأمور العرفية. وعليه ليس لها علاقة وثيقة بالدين. وبهذا تنفصل الحكمة عن
الحكومة. فهو يعتقد بأن الرسول‘ والأئمة^ لم تكن لهم ولاية سياسية، بل ليس من
حقّهم هذا المنصب أيضاً؛ لأنه يلزم الدور المضمر ـ الدور بالواسطة ـ. ويمكن مقارنة
هذا الاستدلال بإثبات نظرية التنصيب عن طريق برهان اللطف، حيث يقول نصير الدين
الطوسي: إذا كنا لا نستطيع بلوغ الواقع فهذا مخالف لفرض الشارع. وعليه لابد أن
ينصب الشارع شخصاً ما. ويرى مهدي الحائري أن هذا البرهان ليس قابلاً للطعن فحسب،
بل إن تنصيب الولي في الأعمال والتشريعات التطبيقية محالٌ أساساً، فهو يعتقد أن
امتثال أو عصيان الواجب ممكن بعد وجوده وضعاً، والوجود الوضعي للواجب متأخّر أيضاً
عن إرادة تشريع الحكم. إذاً فالمتكفّل بتطبيق القانون خارج عن وضع وتشريع ذلك
القانون. فإذا أراد الله تحديد المتكفّل بتطبيق القانون (القانون السياسي) لزم من
ذلك تقدّم الشيء على نفسه بمرحلتين، ووقوع الدور المضمر([24]).
والنتيجة بما أن امتثال أو عصيان الأمر ـ المتعلّق بالتطبيق والتنفيذ ـ متأخر عن
الإرادة التشريعية بمرحلتين إذاً لابد أن يكون المتكفل بتطبيق كل قانون خارجاً عن
وضعه وتشريعه أصلاً، ولا يصح لأيّ قانون تشريعي أن يكون هو الجهة المطبقة لنفسه؛
تأسيساً عليه، حتّى يمكن الادعاء بأن العامل في تصدي المعصومين^ للسياسة هم الناس
أنفسهم. فواجب التنفيذ يقع على عاتق المكلّف نفسه، ولا يوجد أيّ دور تشريعي للنبوة
أو الإمامة في تطبيق الواجبات، والعمل بالأوامر.
ويرى مهدي الحائري اليزدي أنه لا يوجد فقيه من الشيعة أو
السنة يقول بحق الفقيه في الحكم والقيادة. وعليه لا يحمل مفهوم النبوة أو الإمامة
أية دلالة على ضرورة تأسيس نظام سياسي يتكفل بتطبيق الأحكام. وبهذا يقدِّم الحائري
قراءة مختلفة إلى حدٍّ ما عن قراءة أصحاب العقد الاجتماعي، وفي مقدمتهم (راسو)([25]).
سروش
وإشكالية العلاقة بين الدين والسلطة ـــــــ
وكذلك هو رأي عبد الكريم سروش؛ إذ لم ير أية علاقة
مباشرة بين رجال الدين والسياسة، ولا بين الدين والسياسة، فقال في هذا السياق: «المجتمع
الديني كالشجرة المثمرة، ينتج ما يناسبه من حكم وسياسة ـ بثمار دينية طبعاً ـ. وهذه
الطريقة أكثر الطرق انسيابية في تحالف السياسة مع الدين في مرحلة الواقع والتحقق
الخارجي. ولرجال الدين أيضاً الحق في التحكُّم بمصير المجتمع والتدخل في شؤونه،
بأن يتصدّى ويرشح للمناصب مَنْ هو أكثر شعبية واحتراماً لدى عامّة الناس. وهي أبلغ
طريقة في إحراز المكانة الاجتماعية والسياسية([26]).
ليس بالضرورة أن يكون معنى هذا الرأي هو منع رجال الدين
من دخول السياسة، أو منع السياسة من التدخل في الدين بشكل عام([27]).
كما هو الحال بالنسبة لـ «الدين
المدني»، حيث لا تلغى الوشائج بين أعضاء العقد بشكل كامل، فيستمر الدين كمؤسّسة مدنية
في ممارسة نشاطه، ويحق لرجال الدين ـ كما يحق لغيرهم ـ دخول المعترك السياسي.
فمفهوم العلمانية عند سروش ليس هو إلاّ العقلانية والعلمية في تدبير شؤون المجتع،
وحذف التقديس عن الدين وإدارة المجتمع.
فهي ليس حرباً مع الله عزّ وجلّ. إن مدى الحكومة العلمانية هو أن لا تجعل الدين
أساساً في المشروعية، ولا في الأداء([28]).
وبما أن السلطة عرضة للفساد فللناس الحقّ في مراقبتها، وعزل أفرادها. ومن له حق
العزل له أيضاً حق التنصيب. وليس هذا إلا إثباتٌ لحكم الشعب، وتنفيذٌ للقول بتحكم
الأرباب والمتغطرسين بمقدرات كل شيء على الأرض([29]).
إن الحكومة الدينية ـ وليس الفقهية ـ حكومة ديمقراطية؛ لأنها تعد مقومات
الديمقراطية من ثوابتها الأخلاقية. فليس الفقه هو كل الدين، وليس البحث في الحكم
الديمقراطي الديني بحثاً فقهياً([30]).
فمواضيع العدالة وحقوق الإنسان هي من المسائل الخارجة عن حدود النص الديني، ولا
ينبغي إلقاء هذا الحمل الثقيل على عاتق الفقه الضعيف. فنحن لا نشتقّ العدالة من
الدين، وإنما نرحب بالدين لعدالته([31]).
إن الفقه علم بشري ناقص، ودنيوي متلوّن، ذو رؤية ظاهرية، ومنسجم مع الأخلاق
المتدنية. هو علم المستهلك في أقل المستويات، ويتأثر أيضاً بالبنية الاجتماعية،
وهو علم الأوامر والواجبات والمصالح الخفية([32]).
وقال سروش أيضاً بوجود أركان للديمقراطية، هي:
العقلانية؛ الأكثرية؛ حقوق الإنسان. ويهدف المفكرون الدينيون إلى تقديم حقوق
الإنسان بوصفها شرف الإنسان وكرامته، ويدافعون عنها من هذا المبدأ([33]).
ونحن كبشر، بعيداً عن أي لحاظ آخر، لنا حقوقٌ، وعلينا واجباتٌ، بحيث إن هذه
الالتزامات المحددة قبل تدخل اللحاظات الدينية هي التي تحدّد ما إذا كان الشخص
متديّناً أو لا. ولا شك هنا في وجود تعارض بين حقوق الإنسان والواجبات الدينية،
ولاسيما على صعيد الواجبات الفقهية. وإذا حصل تعارض بين الحقوق والواجبات النصية
وبين الحقوق والواجبات غير النصية فإن الثانية هي المقدّمة([34]).
شبستري
وهرمنوطيقا الحقوق ــــــ
أما مشروع
(شبستري) فهو ـ باختصار ـ عبارة عن توظيف الهرمنوطيقا في إعادة هيكلة الفكر
الديني. ومن هنا وجّه انتقاداته إلى أسلوب الفقهاء المعهود، وكشف عن مدخلية عنصر
الزمان والمكان في الاجتهاد([35]).
فرأى أن العديد من الأوامر والنواهي الصادرة في باب المعاملات ـ أي الاجتماعيات
بالمعنى الأعم ـ هي إرشادية غير، فراح يستعين بالهرمنوطيقا في فهم دور الزمان
والمكان في عملية الاجتهاد([36]).
وقال في حقوق الإنسان: «إن المراد من حقوق الإنسان هنا هي الحقوق التي تؤسّس
النظام السياسي والاجتماعي، وليست هي الحقوق التي يلتزم بها كل شخص بدوافع
أخلاقية. فمضمون حقوق الإنسان ليس دينياً، ولا هو ضدّ الدين أيضاً([37]).
وكان قد رد على رأي (جوادي آملي) في حقوق الإنسان بأن الحقوق الميتافيزيقية لا
يمكن تطبيقها. ولهذا فإن الحرية السياسية مقدمة على التعهدات الدينية. وبالتالي
يمكن تقديم قراءة عن الإسلام لا تتنافى مع المفاهيم الرئيسة لحقوق الإنسان. فلو
فصلنا بين ذاتيات الدين وعرضياته لوجدنا أن الكتاب والسنّة لم يتطرّقا أبداً إلى
مواضيع حريات الدين والسياسة المعاصرة([38]).
مناقشة
وردود ـــــ
لقد حاولت الأفكار التجديدية المعاصرة ـ كما رأينا ـ
تقديم قراءة عن الدين تنسجم مع الثوابت الدينية من جهة، ومع المفاهيم الديمقراطية
وحقوق الإنسان من جهة أخرى. ويمكن إيجاز إيجابيات هكذا نوع من الدراسات في ما يلي:
1ـ الاهتمام بالفعل المستقلّ، وإحياؤه في التفكير
الإسلامي والشيعي، والابتعاد عن التفكير الأشعري.
2ـ الإشارة إلى حالة تعارض الأدلة غير النصية مع الأدلة
النصية، وترجيح النوع الأول.
3ـ نقد التراث الفقهي، والالتفات إلى قصوراته الناتجة عن
التخمة والبدانة في نصوصه.
4ـ التمييز الضمني بين نوعين من العلاقة، وهي العلاقة
بين الدين والسياسة؛ وعلاقة رجال الدين بالدولة.
5ـ الدفاع عن الدين وروحه المعنوية في الوقت الحاضر،
وإثبات حضوره في عصر الحداثة وما بعدها.
وفي الوقت ذاته لابدّ من التذكير بأن الأدلة غير النصية
المعتمدة من قبلهم لم تكن سديدة أيضاً. فعلى سبيل المثال: هناك انتقادات كثيرة
وجّهت إلى دليل «استحالة الجعل في تطبيق الجزئيات»، ولزوم الدور المضمر الذي قدّمه
مهدي الحائري([39]).
ويمكن الطعن في استدلاله العقلي من ثلاث جهات، هي:
1ـ مع أن التطبيق نفسه متأخّر عن إرادة التشريع
بمرحلتين، إلا أن تشريع الشارع في خصوص التطبيقات العملية لم يتأخّر عن إرادته
التشريعية. وفي الواقع فإن الحائري هنا خلط بين «التطبيق» و«تشريع الشارع لما يطبق
خارجاً». وإذا كان هذا صحيحاً؛ بأن الامتثال متأخِّر عن الإرادة التشريعية
بمرحلتين، فلا يلزم منه تأخّر التشريع الإلهي عن التطبيقات أصلاً. فلو وضع الشارع
حدوداً في التطبيق العملي ـ كأن يقول: إن هذا الأمر عائد للفقيه، أو ليس عائداً له
ـ فليس تقدّم الشيء على نفسه بمرحلتين، ولا يلزم منه محال آخر أيضاً. وقد قدّم هذا
الانتقاد بصورة أخرى مفادها: «وقوع الخلط بين مسألة قانون الدولة وامتثال أو تطبيق
المكلّفين لأفعالهم. فالموضوع هنا هو نظام الدورة، وهو ظاهرة اجتماعية ذات معطيات
وقوانين خاصّة به، وقد يكون أحياناً موضوع الإشراف على تطبيق وتنفيذ المكلّفين
جزءاً منه. وقانون الدولة ـ كغيره من الدساتير ـ يحتوي على مصالح ومفاسد في الوقت
نفسه، وهي تظهر في مرحلة التقنين، كما يجري بالضبط مع الدستور الذي يضعه العقلاء
من أجل آلية تطبيق القوانين، ونوع الحكم وبنيته. فلا ينبغي الخلط بين الدولة
وشكلها وبين لزوم الامتثال والتطبيق، فهو حكم عقلي. وإن الأمر بنظام حكم معين لا
يعني الإلزام بتطبيقه، لكي نقول: إن وجود الإلزام العقلي بضرورة الامتثال يغني عن
الأمر بقانون ونظام الحكم المعين([40]).
2ـ بغض النظر عن الجواب المتقدّم هناك جواب آخر مستقىً
من مواضيع مشابهة في أصول الفقه، ومفاده: يلزم تقدّم الشيء على نفسه إذا كان
الشارع يريد تحديد التطبيقات والتشريع فيها بأمر واحد، فلو حدّد الشارع ذلك بأمر
آخر لم يلزم منه تقدّم الشيء على نفسه، ولا أيّ محال آخر. وحاصل إمكانية الجعل
التشريع في التطبيقات هو ضرورة الرجوع إلى الأدلة العقلية والنقلية في ولاية
الفقيه.
3ـ يمكن في موارد التطبيق هذه أن يقال: إن لـ «منع الآخرين
عن الظلم» أو «إجبار الآخرين على امتثال الأوامر» ملاكاً خاصاً، بمعنى أنه ينتج عن
مفسدة الظلم واجبان: أحدهما: يقع على فاعل الظلم ـ قبل وقوعه ـ؛ والثاني:
يقع على الآخرين. وعليه يكون خطاب «اجتنب الظلم» موجّهاً إلى الظالم نفسه، كما
يوجّه خطاب «وامنعوا عن ظلم الظالم» للآخرين. وبعبارة أخرى: إن مقام التطبيق في ما
نحن فيه غير مقام «الأمر بالامتثال»، أو «الإلزام بالامتثال» في الموارد الأخرى([41]).
أما بالنسبة لسروش فأيضاً لم يَخْلُ استدلاله في الحكم
الإلهي عن طريق موضوع المفسدة الحاصلة في السلطة من إشكال. ولا شك أنه مع هذا
الاستدلال لا يبقى مجال للقول بنظرية التنصيب والانتخاب في ولاية الفقيه. فإذا
كانت السلطة من حقّ الشعب لن يبقى مجالٌ لإثبات ولاية الفقيه، لا بالتنصيب، ولا
بالانتخاب، على حدّ سواء. وبعبارة أخرى: إذا كان هذا الاستدلال صائباً لزمنا تأويل
الروايات القائلة بنظرية التنصيب أو الانتخاب، وحملها على وجه آخر. إن هذا
الاستدلال سليمٌ من ناحية شكل البرهان بمقدّماته الثلاث، لكنه سقيمٌ من جهة المادة
والمحتوى. وللمثال فقط نقول: يمكن تصور صدور الأمر بتنصيب الولاية، وإشراف «الشعب»
معاً من قبل الباري عزّ وجل. وهذا لا يدلّ أبداً على أنّ كلّ من له حق الإشراف
والمتابعة يحقّ له من باب أولى تولّي الحكم والسلطة. ففي الواقع يمكن أن يكون الله
عزّ وجل قد منح الولاية لأشخاص معينين، ومع هذا ترك للناس سبل السيطرة الخارجية.
وليس بعيداً أن يتبنى هذه الفكرة مَنْ يقول بنظرية التنصيب المعدّلة، وهي نظرية
التنصيب مع الفصل بين مسألة ولاية الفقيه ومسألة التولّي، فيشترط في تولي الفقيه
أيضاً رأي الشعب وتأييده. والاحتمال الآخر هو أن يكون أصل الولاية مشروطاً بإرادة
الشعب. وعلى هذا الأساس تصدق الولاية في حال وجود رغبة الناس فيها، وهنا يكون رأي
الشعب مؤثّراً في إيجاد الولاية، وفي بقائها، وتحديد السلطة أيضاً، بمعنى أن هذه
الفرضية تنصّ على حق الشعب في «الولاية»
من جانب، وفي حق العزل والتحكم بالسلطة من الخارج من جانب آخر. وعليه يمكن إثبات
ولاية الفقيه حتى في نوعها التنصيبي المشترط فيه رأي الشعب([42]).
ولم يكشف سروش في كلامه عن حدود الإشكال، فهل مشكلته هي
الفقه أم تضخّمه؟ فإذا أجريت الإصلاحات على الفقه (السياسي) لن يبقى دليل في ترك
الأدلة النصية المختصة في مجال السياسة والاجتماع. ومن جهة أخرى لم يحدّد أيضاً
موضع تقدّم الأدلة غير النصية على الأدلة النصية. وهو يعتقد بأن حقوق الإنسان لابد
أن تنظم خارج إطار الدين. لقد أكد سروش على أن الموضوع يدور حول التعارض، وليس
معنى هذا افتقار الدين إلى الأشياء([43]).
ومن جهة أخرى هو يعتقد بتقديم وترجيح الأدلة غيرالنصية في حالة وقوع التعارض بين
الاثنين فقط، في حين نجده في موضع آخر يقطع دابر الفقه تماماً من المساس بمحمية
السياسة، فيقول: «ليس السؤال عن حق السلطة ونحوها سؤالاً فقهياً، وإنما هو متعلّق
بمنظومة الفلسفة السياسة حصراً»([44]).
وهنا يسأل المتديّن نفسه: إذا كانت النصوص الدينية قد تطرقت لقضايا الحكم وأشكاله
فلماذا تترك جانباً، ويذهب خلف الأدلة غير النصية؟
وبالنسبة لشبستري فإن غموضاً كبيراً يكتنف منهجيته؛ بسبب
عدم التمييز بين أنماط الهرمنوطيقا. ويبدو أنه يحاول الأخذ من جميع المذاهب
الفكرية، فتوصل إلى نتائج مبهمة. فبالدرجة الأولى لا يوجد قدر مشترك بين هرمنوطيقا
(غادمير) الوجودية والنظريات الأخرى. وإذا كنا نتحدث عن الهرمنوطيقا فلابدّ أن
نبين أيّ النظريات نقصد. فليس مفهوماً لدينا كيف أراد شبستري الاستعانة بهرمنوطيقا
غادمير، وتوظيفها أسلوباً في الاستنباط الفقهي([45]).
وكما قال محمد رضا نيك فر: إنه كان بصدد إثبات مسألتين: إحداهما: التحوّل
والديناميكية الحاصلة في العالم؛ والأخرى: تقديم حلول جديدة لها. وهذا
متعلّق بموضوعة الفقه المتجدد، وليس بالهرمنوطيقا([46]).
ثم إن سلّمنا بأن توظيف الهرمنوطيقا كان سديداً فليس من الواضح أيضاً كيفية
استنتاج الديمقراطية الدينية المنسجمة مع حقوق الإنسان من هذه المنهجية. ويمكن
القول ـ جدلاً ـ: إنه من الممكن أن يلجأ المعارضون للتجديد الديني أيضاً لهذه
المنهجية نفسها، وتأتي نتائجهم عكسية طبعاً.
إذاً فمحصّلة الكلام أن مفهوم العلمانية الإسلامية حاضرٌ
في عالم التشيع، بغضّ النظر عن نقاط الضعف فيه، وسواء كان بمعنى فصل الدين عن
السياسة، أو بمعنى فصل رجال الدين عن الدولة، أو كان في إطار الأدلة النصية أو غير
النصية.
فثمّة فرقٌ بين العلمانية الدينية والعلمانية غير
الدينية، حيث تبقى الأولى تحمل معها همّ الدين، وتربط دائماً أفكارها بالشارع المقدّس،
سواء في عصر الغيبة أو في الشكل العام. وتعد الحكومة الدستورية (المشروطة) نقطة
تحوّل في مفهوميات «العلمانية» على مستوى التشيّع.
لابدية
التنسيق بين الأدلة النصية والأدلة غير النصية في الفكر السياسي ــــــ
يقودنا ما لمسناه من واقع الأدلة النصية وغير النصية،
والنقص والاحتياج الطارئ على كلٍّ منهما ـ ولاسيما في مجال السياسة ـ، إلى الحكم
باستحالة الاستغناء عن أيّ واحد منهما. فمن جهة نحن بحاجة ماسة إلى أدلة ما قبل
الدين، ليخلصنا تحكيم العقل المستقل من الانجرار وراء النزعة الأشعرية؛ إذ يتحتّم
علينا في الوقت الحاضر، الذي تحتضر فيه الفلسفة السياسية في العالم الإسلامي
وإيران، أن نثمّن دور العقل والعقلانية أكثر من ذي قبل، كي نتجنّب الطرق المسدودة،
فلا يمكن نقد تراثنا السياسي إلا عن طريق إحياء العقل السياسي. لقد بات الفقه
الشيعي ـ بشكل عام ـ والفقه السياسي ـ بشكل خاص ـ على مقربة من تفكيرات الأشاعرة؛
بسبب إهمال العقل المستقلّ، فصار يحكم بحسن كلّ ما ورد الأمر فيه داخل الأدلة
النصّية. إن حاجتنا الملحّة إلى إحياء العقل ـ ولاسيما في مجال الفلسفة السياسية ـ
هي من الأمور القطعية، وإن في حدود ما كان على عهد الفارابي في أقل تقدير. وهذه
المسألة بحاجة إلى تفصيل ومناسبة أخرى.
ومن جهة أخرى بما أنه لا يوجد دليل غير نصي محرز لليقين،
يغنينا من الرجوع إلى النصوص المقدّسة في المسائل السياسية والاجتماعية، لذا من
الضروري أيضاً اللجوء إلى هذه النصوص في رسم النظريات الاجتماعية. فمثلاً: لابد في
دراسة بعض العناوين ـ كمنع كتب الضلالة، والرقية، وغيرها ـ من إجراء تحقيق وتنقيب
في الأساس الداخلي، وعبر استكشاف مفاهيم الدين وعناصره. ومعلوم في هذه الحالات أنه
لا يمكن الاكتفاء بالأدلة غير النصية. فحين يقدم القرآن الكريم إرشاداً عاماً في
الاقتصاد الإسلامي، فيرفض أن تكون الثروات حكراً على الأغنياء، قائلاً: {كَيْ
لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} (الحشر: 59)، فلا يمكن لنا
ترك هذه الإرشادات، بل يتعين علينا العمل بها، واحترام حقوق الآخرين وفقاً لأوامر
الشارع المقدس. والمثال الآخر هو اهتمام الدولة وسائر أبناء الأمة الإسلامية
بالتزاماتهم الدولية، التي من الممكن أن تتعارض أحياناً وفي الظاهر مع المصلحة
الوطنية، لكنها تبقى واجباً شرعياً، وحقاً من حقوق الإنسان([47]).
وتأسيساً على ذلك فليس بإمكان الأدلة غير النصية أن
تغنينا أو تمنعنا ـ في مجالات السياسة ـ من الرجوع إلى نصوص الوحي. كما ليس
بالضرورة أن يكون معنى رجوعنا إلى الأدلة النصية هو استيعاب الدين لكل ما يتعلّق
بهذا المجال. فلطالما اكتشفنا شحّة أوامر الشارع المقدس في موضع ما، فيحيلنا هو
إلى سيرة العقلاء. لكن الأهم في هذا الصدد هو: أولاً: إن هذا الأمر ممكن
بعد فحص الأدلة النصية ومعطيات الأدلة غير النصية. وثانياً: قد لا يكون
الحال نفسه في جميع المجالات المختلفة من اجتماع وسياسة. فعلى سبيل المثال: قد
نحصل في باب القضاء والاقتصاد على أدلة نصية أكثر ممّا هي عليه في باب الفلسفة
السياسية.
وقد تناولنا آلية رفع هذا التداخل بين هذين النوعين من
الأدلة في مجال حقوق الإنسان في مقال منفصل([48]).
الهوامش
(*) باحث
في الحوزة والجامعة، حائز على دكتوراه في العلوم السياسية، عضو الهيئة العلمية في
كلية الفكر السياسي الإسلامي، وأستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية في جامعة
المفيد في قم.
([1]) صادق حقيقت، «أز إسلام فرهنگي تا
إسلام سياسي» [من الإسلام الثقافي إلى الإسلام السياسي]، صحيفة «اعتماد ملي» (27/
7/ 1358)
([6]) انظر: داوود داورسون، دين
وسياسة در دولة عثماني: 93، ترجمة: منصورة حسيني وداوود وفائي، طهران وزارة
الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1381.
([13]) حسن منفي ومحمد عابد
الجابري، حوار المشرق والمغرب: 38 ـ 44، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
1990.
([18]) صادق حقيقت، «گونه شناسي
ارتباط دين وسياسة در أنديش سياسي إسلامي»، مجلة مفيد العلمية للدراسات، العدد 38،
مهر وآبان 1383.
([19]) عبد الوهاب فراتي، «زندگي وگزيده أنديشه
سياسي سيد جعفر كشفي»، مجلة علوم السياسية، عدد 12، خريف 1374.
([20]) محمد كاظم الخراساني، حاشية
كتاب المكاسب: 93 ـ 94، طهران 1406هـ؛ محسن كديور، سياست نامه خراساني: 11، طهران،
كوير، 1385.
([31]) عبد الكريم سروش، فربه تر أز
إيدئولوﮊي: 52، طهران، صراط، 1372؛ «دانش ودادگري»، مجلة كيان، العدد 2، آذر
ودي 1373.
([43]) عبد الكريم سروش، در محمد
بسته نگار،
ﭘـﮋوهش وتدوين، حقوق بشر أز منظر أنديشمندان، طهران، الشركة العامة
للنشر، 1380.